المحافظة على الامتثال التنظيمي وإدارة المخاطر المالية

المحافظة على الامتثال التنظيمي وإدارة المخاطر المالية

في بيئة الأعمال الحيوية اليوم، لا يقتصر الامتثال التنظيمي على مجرد اتباع القواعد والقوانين، بل يُشكل عنصرًا أساسيًا في إدارة المخاطر المالية (FRM). فالمؤسسات التي لا تدمج الامتثال التنظيمي في بناء استراتيجيات إدارة المخاطر الخاصة بها تتعرض لمخاطر مالية كبيرة، وعقوبات قانونية، وقد يؤدي ذلك إلى تدهور في سمعتها أيضًا. حيث يعمل الامتثال التنظيمي كعامل حماية ضد المخاطر المفرطة، والممارسات المالية الغير الأخلاقية، والإخفاقات النظامية. حيث أن سوء إدارة المخاطر واستغلال الثغرات التنظيمية كانت سبب رئيسي لحدوث معظم الأزمات المالية الكبرى، بدءًا من الانهيار المالي العالمي في عام 2008 وصولًا إلى انهيار بنك Silicon Valley Bank (SVB) عام 2023. غياب إطار فعَال للامتثال للأنظمة والتشريعات، قد يؤدي إلى انخراط الشركات في مخاطر مالية مفرطة دون إدراك العواقب الوخيمة. لذلك، فإن المؤسسات التي تدمج الامتثال التنظيمي وإدارة المخاطر المالية بشكل استباقي لا تتجنب فقط التداعيات القانونية، بل تعزز أيضًا استقرارها المالي على المدى الطويل. يستعرض هذا المقال أساسيات الامتثال التنظيمي، وأهميته في مختلف القطاعات، والفوائد الاستراتيجية لاتباع نهج استباقي من خلال دمج الامتثال التنظيمي وإدارة المخاطر المالية.

فهم الامتثال التنظيمي

يشير الامتثال التنظيمي إلى التزام الشركات بالقوانين واللوائح والتوجيهات التي تفرضها الجهات التنظيمية. يتضمن هذا الالتزام مجموعة من القواعد التي تهدف إلى ضمان العدالة، والاستقرار المالي، وحماية المستهلك، والشفافية، وضمان الممارسات الأخلاقية. يمكن تشبيه الامتثال التنظيمي بارتداء حزام الأمان؛ قد يبدو مزعجًا في بعض الأحيان، لكنه يحمي من الأضرار الجسيمة عند وقوع الحوادث الغير متوقعة. حيث أنَ المؤسسات التي تأخذ الامتثال على محمل الجد لا تكتفي فقط بتجنب العواقب القانونية، بل تبني الثقة مع أصحاب المصلحة وتضمن استدامتها.

لماذا يفرض المنظمون الامتثال؟

يهدف المنظمون إلى فرض متطلبات الامتثال لضمان بيئة مستقرة وعادلة في السوق. وتُصمم هذه اللوائح لحماية أصحاب المصلحة مثل المستهلكين، والمستثمرين، وأيضًا الاقتصاد بشكل عام من مخاطر الاحتيال، والفساد، وغسيل الأموال، والأزمات المالية، وغيرها من المخاطر. فيما يلي بعض الأسباب الرئيسية لفرض الامتثال التنظيمي:

الحد من المخاطر: التأكد من أن المؤسسات تعمل ضمن بيئة خاضعة للرقابة لمنع المخاطر النظامية، والاحتيال المالي، والخلل التشغيلي.

حماية المستهلك: فرض ممارسات تجارية عادلة وحماية البيانات الحساسة للعملاء.

نزاهة السوق: تعزيز الشفافية والمساءلة في التقارير المالية والمعاملات التجارية.

الاستقرار الاقتصادي: تجنب الأزمات المالية من خلال فرض تدابير إدارة المخاطر.

الممارسات الأخلاقية: وضع معايير واضحة للسلوك الأخلاقي داخل القطاع المالي لضمان ممارسات أعمال مسؤولة تعود بالنفع على المؤسسة والمجتمع.

التوافق مع المعايير الدولية: تعمل العديد من المؤسسات المالية عالميًا، مما يستلزم الامتثال للمعايير الدولية لضمان مواءمتها مع أفضل الممارسات العالمية.

يهدف المنظمون إلى فرض متطلبات الامتثال لضمان بيئة مستقرة وعادلة في السوق.

على سبيل المثال، كان انهيار بنك Silicon Valley Bank في عام 2023 جزئيًا نتيجة لاستغلال ثغرات تنظيمية وسوء إدارة للمخاطر. وهذا يُبرز أهمية أن يكون الامتثال التنظيمي أولوية وليس مجرد عملية لاحقة.

الامتثال التنظيمي حسب القطاع

يواجه كل قطاع تحديات تنظيمية مختلفة بناءً على المخاطر الفريدة التي يواجهها وطبيعة الهياكل التشغيلية . فيما يلي بعض متطلبات الامتثال الرئيسية عبر بعض القطاعات:

01. القطاع المالي

تفرض الهيئات والمؤسسات التنظيمية لوائح صارمة على المؤسسات المالية لضمان الاستقرار وحماية المستهلك، وتشمل المتطلبات التنظيمية الشائعة  ما يلي:

إطار بازل (Basel Framework): يساعد البنوك في الحفاظ على رأس مال كافٍ للحد من مخاطر الائتمان، ومخاطر السوق ،والمخاطر التشغيلية.

المعيار الدولي للتقارير المالية (IFRS 9): ينظم الأدوات المالية، لا سيما في تقييم مخصصات الخسائر الائتمانية.

تقييم كفاية رأس المال الداخلي (ICAAP): يحدد كفاية رأس المال بناءً على التعرض للمخاطر.

أنظمة مكافحة غسيل الأموال (AML) ومعرفة العميل (KYC): تمنع الجرائم المالية وتعزز إجراءات العناية الواجبة بالعملاء.

02. الشركات غير المالية والكيانات التجارية

رغم أن الشركات خارج القطاع المالي ليست خاضعة للوائح مصرفية مثل بازل III، إلا أنها تواجه متطلبات امتثال تتعلق بإدارة المخاطر، والتقارير المالية، وأمن البيانات:

حوكمة المخاطر والضوابط الداخلية: يجب أن تنشئ المؤسسات ضوابط داخلية لإدارة المخاطر المالية (مثل مخاطر السيولة، ومخاطر السوق، والمخاطر التشغيلية)، مع الامتثال لأنظمة الحوكمة لضمان الشفافية والمساءلة.

المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية: تصنيف الأصول المالية وتقييمها بشكل مناسب، والاعتراف باضمحلال القيمة في وقت مبكر، وضمان الاتساق في الاعتراف بالإيرادات، وتقديم التزامات الإيجار بحيث لا يكون هناك مجال لثغرات التمويل خارج الميزانية العمومية. وبالتالي، تعزيز الشفافية ورفع مستوى ثقة المستثمرين.

قوانين حماية البيانات (اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، وقانون حماية خصوصية المستهلك (CCPA)، إلخ): تمنع الانتهاكات الإلكترونية وتضمن التعامل المسؤول مع البيانات. حيث يجب على الشركات التي تعالج البيانات الشخصية ضمان تشفير البيانات وحفظها وتخزينها بشكل آمن ومنع الوصول إلى المعلومات الحساسة.

03. قطاع الطاقة والصناعة

يواجه قطاعا الطاقة والصناعة أنظمة وتشريعات معقدة، بسبب تأثيرهما على البيئية وضرورة متطلبات السلامة في مكان العمل والمخاطر المالية المرتبطة بتجارة السلع الأساسية.

اللوائح البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG): يجب على الكيانات الإفصاح عن المخاطر المتعلقة بالمناخ وتأثيرها على الأداء المالي. كما يجب الإبلاغ عن الانبعاثات الكيميائية وغيرها. ويشمل الامتثال للوائح البيئية والاجتماعية والحوكمة أيضًا ممارسات العمل المسؤولة وإدارة سلسلة التوريد بشكل أخلاقي والأخذ بالاعتبار التأثير الاجتماعي.

لوائح إدارة السلامة والصحة المهنية (OSHA): بموجب هذه اللوائح، سيتعين على أصحاب العمل تحديد المخاطر في مكان العمل والتخفيف من حدتها، وضمان ظروف عمل آمنة، والإبلاغ الإلزامي عن الإصابات والحوادث في مكان العمل، وتنفيذ تدريبات السلامة، وتوفير معدات الحماية للموظفين في البيئات الخطرة.

لوائح تداول السلع: تهدف هذه اللوائح إلى تعزيز آليات التسعير الشفافة، والإفصاحات في السوق لمنع التلاعب بالأسعار، وفرض قيود على مراكز التداول القائمة على المضاربة للحد من المخالفات النظامية. يجب على المؤسسات العاملة في مجال تداول الطاقة الامتثال لقوانين مكافحة التلاعب والإبلاغ عن المخالفات إلى الهيئات التنظيمية.

اتخاذ نهج استباقي نحو الامتثال التنظيمي

يمكن أن يؤدي عدم الامتثال للمتطلبات التنظيمية إلى عواقب وخيمة، بما في ذلك الغرامات القانونية والإيقاف التشغيلي والإضرار بالسمعة. حيث تنتظر العديد من المؤسسات إلى أن تفرض عليها الجهات التنظيمية التغييرات والزامهم بها، الأمر الذي قد يكون مكلفًا ومُعطلاً للعمليات التشغيلية. وبدلاً من ذلك، يمكن للمؤسسات اتباع نهج استباقي من خلال:

تنفيذ أفضل الممارسات في أقرب وقت ممكن: بدلاً من التزاحم على تلبية المتطلبات الجديدة، يمكن للمؤسسات أن تبقى في المقدمة من خلال بناء ضوابط داخلية قوية، وإجراء عمليات تدقيق منتظمة، والاستفادة من الامتثال المبكر.

تعزيز حوكمة المخاطر: وضع أطر عمل لإدارة المخاطر بشكل استباقي من الممكن أن يساعد المؤسسات على توقع التغييرات التنظيمية وتعديل العمليات التشغيلية وفقًا لذلك. ويشمل ذلك اختبارات الجهد وتخطيط رأس المال وتحليل السيناريوهات.

التعلم من أخطاء الآخرين: غالبًا ما تقدم إخفاقات الكيانات في الامتثال التنظيمي دروسًا قيّمة. حيث يمكن أن يساعد على تحديد نقاط الضعف المحتملة وتجنب الأخطاء المكلفة.

إشراك الخبراء: المشهد التنظيمي معقد ودائم التطور ويمكن أن يساعد المؤسسات التعاون مع الاستشاريين ذوي الخبرة على تبسيط جهود الامتثال التنظيمي والبقاء في طليعة التغييرات.

من خلال دمج مبادئ إدارة المخاطر المالية (FRM) في استراتيجيات الامتثال الخاصة بها، يمكن للمؤسسات تعزيز المرونة وحماية أصحاب المصلحة وتعزيز النمو المستدام.

يعد الامتثال أكثر من مجرد مطلب في بيئة السوق اليوم، كما أنه أصبح ضرورة استراتيجية للمؤسسات. فالمؤسسات التي تأخذ الامتثال التنظيمي على محمل الجد لا تكتفي بالبقاء فحسب، بل تزدهر. بدلاً من النظر إلى الامتثال كعبء تنظيمي، يمكن للمؤسسات الاستفادة منه كعامل تمكين استراتيجي للنمو والابتكار والريادة في السوق. من خلال دمج مبادئ إدارة المخاطر المالية   (FRM) في استراتيجيات الامتثال الخاصة بها، يمكن للمؤسسات تعزيز المرونة وحماية أصحاب المصلحة وتعزيز النمو المستدام.

إدارة المخاطر في بيئة أسعار الفائدة المتغيرة
القائمة