تقاطع إدارة المخاطر المالية وتمويل الشركات
دمج دور إدارة المخاطر المالية (FRM) في تمويل الشركات أصبح أمرًا بالغ الأهمية في ظل المناخ الاقتصادي غير المتوقع الذي نعيشه اليوم. إن ترتيب الديون وهيكلة رأس المال مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاتجاه الاستراتيجي والأهداف الاستثمارية للأعمال. بالتالي تلعب إدارة المخاطر المالية دورًا رئيسيًا من خلال توفير الأدوات والرؤى اللازمة للحفاظ على الاستقرار وفي نفس الوقت محاولة اغتنام فرص النمو وزيادة الربحية والقيمة.
أتحدث في هذه النشرة عن كيفية تسخير إدارة المخاطر المالية لتحويل ترتيب الديون وهيكلة رأس المال. من خلال دمج إدارة المخاطر في هذه القرارات المالية، يمكن بناء المرونة، والازدهار في الأسواق المتقلبة، وتحقيق الأهداف طويلة الأمد.
الأهمية الاستراتيجية لترتيب الديون
أصبح ترتيب الديون أكثر من مجرد مهمة لجمع رأس المال. بل يشمل تصميم هيكلة الالتزامات التي ستتوافق مع الرؤية الاستراتيجية للمؤسسة مع إدارة المخاطر المالية.
تُكمل إدارة المخاطر المالية مفهوم ترتيب الديون من خلال إضافة الأدوات والمنهجيات للتعامل مع التحديات الكبرى. أولاً، يجب على كل شركة أن تتعلم مقدار الديون التي يمكن تحملها واستدامتها. على سبيل المثال، قد يكون لشركة تصنيع متوسطة الحجم إيرادات سنوية قدرها 500 مليون ريال سعودي، ونسبة الدين إلى حقوق ملكية (Debt-to-Equity ratio) في حدود 1.5 مرة. يمكن للشركة أن تقوم باختبارات جهد تحت ظروف مختلفة، مثل انخفاض بنسبة 20% في المبيعات بسبب التباطؤ الاقتصادي، ومثل هذه الاختبارات تساعد الشركة على خدمة الدين في الأوقات الصعبة. إن اختبار العوامل المختلفة التي لا يمكن للشركة التحكم فيها، مثل تغير أسعار الفائدة، هو ربما بنفس القدر من الأهمية.
إن التوازن بين التمويل الذي يظهر في الميزانية العمومية وخارج الميزانية هي قضية استراتيجية للغاية. التمويل الذي يظهر في الميزانية العمومية، مثل القروض أو السندات، أكثر شفافية لأولئك الذين يستخدمون البيانات المالية، بينما عادةً ما يكون له تكاليف مالية أقل بفضل الملف الائتماني الكامل للشركة التي تدعم هذا النوع من التمويل. ولكن من عيوبها هي زيادة النسب المالية مثل الدين إلى حقوق الملكية، مما يقيد السيولة، وبالتالي يؤثر على التصنيفات الائتمانية الحساسة والتي تقلل من مرونة التمويل مستقبلًا، فضلا عن استدامة الدين.
يمكن الحصول على التمويل خارج الميزانية العمومية، وذلك من خلال آليات مثل الإيجارات التشغيلية أو الكيانات ذات الأغراض الخاصة (SPVs)، وهذا يسمح للشركات بالوصول إلى رأس المال مع الحفاظ على المقاييس والنسب المالية الرئيسية. قد يكون هذا جذابًا بشكل خاص للصناعات التي تُقدّر فيها الأوراق المالية القوية، ولكنها تنطوي أيضًا -غالبًا- على تكاليف ومراقبة أعلى للمخاطر بسبب التعقيدات المحتملة. يعتمد التوازن بين الطريقتين على أهداف الشركة. الشركات التي تعطي الأولوية للشفافية والثقة على المدى الطويل يمكنها الحصول على التمويل في الميزانية العمومية، بينما الشركات التي تعطي الأولوية للمرونة على المدى القصير ستفضل تسجيلها خارج الميزانية العمومية.
علينا أيضًا أن نتذكر أن الهيكلة الفعّالة لاستحقاقات الديون تخفض مخاطر السيولة. يجب تحليل ملف الاستحقاق للقروض مقابل التدفقات النقدية الناتجة عن الأصول الممولة. يجب على الشركات التأكد من أن مواعيد استحقاق الديون تتزامن مع تدفقات الدخل المتوقعة لتجنب نقص السيولة. يتيح تنفيذ عمليات متعددة مثل إعادة التمويل، وإعادة هيكلة الديون، والدمج، للشركة أن تتبع خيارات مختلفة نحو الوفاء بالالتزامات المستحقة بشكل مناسب.
تسمح أدوات إدارة المخاطر المالية واختبارات الجهد، مثل القيمة المعرضة للمخاطر (VaR)، للشركات بترتيب ديونها بطريقة تلبي احتياجات المدى القصير والاستقرار على المدى الطويل.
موازنة الرافعة المالية والمخاطر
تشير هيكلة رأس المال إلى الملف الأساسي للمخاطر وفرص النمو في كل شركة، وللوصول إلى مرونة مالية مثالية وتحقيق أعلى قيمة للمساهمين، يجب دراسة المزج بين الأسهم والديون بطريقة مفصلة وممنهجة.
تؤدي الرافعة المالية العالية إلى زيادة المخاطر المالية في حالة تراجع السوق، كما حدث في عام 2008. على سبيل المثال، كان لدى بنك Lehman Brothers نسبة رافعة مالية تصل إلى 30:1، مما جعلها معرَضة بشكل كبير للتقلبات، وبالتالي انهار جراء ذلك. في الوقت نفسه، الشركات التي تستخدم رأس مال غير كافٍ تضيع فرص عديدة للنمو. إن النهج المتوازن يقلل من التعرض للمخاطر مع ضمان توفير تمويل كافٍ للنمو. لذلك، نطبق عادةً تلك المنهجية التي تبحث عن النطاق المثالي للرافعة المالية والمساعدة لتحقيق خطط الاستثمار والاتجاهات الاستراتيجية المناسبة، مع مراعاة تحمل المخاطر وشهية المخاطر.
المتوسط المرجع لتكلفة رأس المال (WACC) يعتبر المؤشر الرئيسي لكفاءة تكلفة هيكل رأس المال في الشركة. على سبيل المثال، شركة تقنية لديها WACC بنسبة 13.6%، حيث تبلغ تكلفة حقوق الملكية 16% وتكلفة الديون 8%، قد تحقق توفيرًا في التكاليف الإجمالية للتمويلية باستخدام مزيج مناسب من حقوق الملكية والديون. نظرًا لأن تكلفة الديون عمومًا أرخص من تكلفة حقوق الملكية، فإن زيادة مستوى الديون في هيكل رأس المال ستقلل من المتوسط المرجع لتكلفة رأس المال طالما أن المخاطر المرتبطة تظل ضمن المستويات المقبولة.
إذا افترضنا أن نفس الشركة لديها هيكل رأس المال 70:30 (70% حقوق ملكية و30% دين) بنسبة موزونة 13.6%. إذا أصبحت النسبة 60:40، بالتالي فإن المتوسط ينخفض إلى 12.8%، على الرغم من أن عنصر الدين أرخص نسبيًا، إلا أن ذلك يأتي بتكلفة أعلى من خلال الرافعة المالية مع زيادة فرص التعثر خلال فترات السوق المتوترة أو الركود الاقتصادي.
مقابل هذه المخاطر، يجب على الشركة تنفيذ اختبارات جهد، لتحديد ما إذا كان العجز المتوقع في إيراداتها أو بعض الزيادات المفاجئة في أسعار الفائدة قد تهدد قدرة الشركة على خدمة الديون. كما تقوم بتقليل التعرض للمخاطر المالية من خلال سداد الديون وفقًا لجدول زمني محدد يتزامن مع التدفقات النقدية المتوقعة والحفاظ على هامش أمان من حقوق الملكية يمكن أن يضمن أن الرفع المالي باستخدام هذا الدين -منخفض التكلفة- لا يهدد السلامة المالية للشركة، على الرغم من أن هذا يسمح للشركة بالاستفادة من مزايا الدين من خلال تسهيل نمو أسرع للشركة من النمو العضوي.
يساعد تحليل السيناريوهات الشركات على اعتماد نماذج لاختبارات الجهد المالية. على سبيل المثال، يمكن لشركة تجزئة لديها 300 مليون ريال سعودي من الديون، تطوير نموذج لاختبار تأثير انخفاض إنفاق المستهلكين بنسبة 15%، و/أو زيادة في أسعار الفائدة تحت نموذج احتمالات مخصص. إذا أظهرت نتائج هذه النماذج أن تغطية التدفق النقدي لخدمة الديون (DSCR) تنخفض عن نسبة معينة، يمكن للشركة بشكل استباقي المضي قدمًا وتغيير هيكلها أو التحوط. يمكن إدارة مخاطر التعرض لتقلبات أسعار الفائدة باستخدام مشتقات مالية مختلفة، مثل مقايضات أسعار الفائدة (Interest Rate Swaps) أو وضع سقف محدد للتعرض لأسعار الفائدة (Interest Rate Cap). على سبيل المثال، إذا أرادت شركة التحوط ضد تقلبات أسعار الفائدة القائمة على 200 مليون ريال سعودي من الديون العائمة (تتبع أسعار فائدة متغيرة) عن طريق الدخول في عقد مقايضة أسعار الفائدة، يمكنها ببساطة تثبيت سعر المقايضة الحالي وعدم التعرض للخسارة (أو الربح) من التقلبات.
انهيار Carillion
يشير انهيار شركة البناء البريطانية العملاقة Carillion إلى تأثير إدارة المخاطر المالية الهشة على أداء ومستقبل الشركة:
- جمعت Carillion أكثر من 1.5 مليار جنيه إسترليني من الديون، مع نسبة دين إلى حقوق ملكية مرتفعة جدًا تتجاوز 27:1، مما جعلها عرضة للصدمات المالية.
- كانت الشركة معرضة لـ 900 مليون جنيه إسترليني من القروض قصيرة الأجل المستحقة في غضون عام، مما خلق خطورة كبيرة لإعادة التمويل، ولم تتمكن الشركة من التعامل معه خلال فترة تم فيها تشديد شروط الائتمان.
- أدت المزايدات والعروض على العقود ذات الهوامش المنخفضة إلى خسائر بقيمة 845 مليون جنيه إسترليني، مما سبب تفاقم مشاكل السيولة.
- على الرغم من وجود عجز في صندوق المعاشات التقاعدية الذي تديره الشركة لموظفيها و بقيمة 2.6 مليار جنيه إسترليني، إلا أن الشركة قامت بتخصيص الأولوية لتوزيعات الأرباح على حساب مساهمات المعاشات التقاعدية، مما زاد من هشاشتها المالية.
تُظهر هذه الإخفاقات الحاجة الحيوية لممارسات إدارة المخاطر المالية الحصيفة، بما في ذلك هيكلة الديون بشكل أفضل، ووضع استراتيجيات ممنهجة لإعادة التمويل، وتطوير تدابير للتخفيف من المخاطر المالية، لضمان الاستقرار طويل الأمد.
مستقبل إدارة المخاطر المالية في تمويل الشركات
من المشجع أن نرى أن الدور الحالي لإدارة المخاطر المالية يتحول نحو هيكلة الديون وتحسين رأس المال بشكل أكثر حيوية، مما يوفر دقة أكبر لمواجهة التحديات المالية الحالية. يمكن أن يقوم الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي بتجديد وتطوير الممارسات التقليدية في الأعمال التجارية والانتقال من النماذج الثابتة لتحليل المخاطر إلى تحليل يتم بشكل مباشر. مما يسمح بتقدير المخاطر المالية بأكثر واقعية ودقة، بما في ذلك تقلبات أسعار الفائدة، وانخفاض التصنيف الائتماني، أو تقلبات السوق المختلفة، التي يمكن أن تساعد الشركات على اتخاذ قرارات فعّالة على الفور.
مع تطور ذلك، أصبحت المنصات المتكاملة التي تربط بين إدارة المخاطر المالية الاستشارية والاستشارات التمويلية للشركات من العوامل التي تُحدث تغييرًا كبيرًا على المستوى الاقتصادي. من خلال تقديم صورة شاملة لحالة الصحة المالية للخزينة على مستوى المنظمة، ويتيح هذا النظام التنسيق السلس بين هيكلة الدين والأهداف الاستراتيجية. من خلال البحث والفحص عن عدد هائل من بيانات الأسواق العالمية، وتتيح هذه البيانات خوارزميات التعلم الآلي من تحديد الأنماط غير المألوفة أو المفاجئة في المخاطر، مثل ارتباط حساسية فئات الأصول بتغيرات أسعار الفائدة. ومع هذه الرؤية، يمكن للشركات اتخاذ قرارات مدروسة لإعادة تعديل استحقاق الديون، والتحوط ضد المخاطر، و/أو إعادة هيكلة الالتزامات بهدف تقليل المخاطر المحددة.
خاتمة
لم يعد دمج إدارة المخاطر المالية في ترتيب الديون وهيكلة رأس المال خيارًا، بل أصبح أمرًا لا غنى عنه اليوم بالنسبة للشركات. من خلال تبني إدارة المخاطر المالية الفعّالة، يمكن للمنظمات تحقيق التوازن الأمثل في الرفع المالي، وضمان إدارة حصيفة للمخاطر، وضمان توافق الاستراتيجيات المالية مع الأهداف الأوسع.
الدرس الحقيقي هو أن ترتيب الديون وهيكلة رأس المال يجب أن يسيرا جنبًا إلى جنب مع إدارة المخاطر لأنهما معًا يشكلان أساسًا قويًا للاستراتيجيات المالية التي تجعل الشركة أكثر تنافسية وقادرة على مواجهة تحديات عدم اليقين، بالإضافة إلى الاستفادة من الفرص الواعدة.