الطريق إلى محاسبة التحوط
خلال الشهر الماضي، شهد العالم حالة من الذعر المصرفي عندما قام مودعو بنك سيليكون فالي (SVB) بسحب ماقيمته 42 مليار دولار(~25% من الودائع) في يوم واحد، ماخلق واحدة من أكبر عمليات السحوبات المدفوعة بالذعر(Bank run) في التاريخ. وقد أشعلت شرارة التهافت هذه على عمليات السحب بسبب أنباء عن محاولة البنك زيادة رأس المال لتعويض 1.8 مليار دولار من الخسائر الناجمة عن بيع استثمارات في السندات الحكومية، والمصنفة محاسبيًا كأوراق مالية متاحة للبيع (AFS). يمكن تصنيف الأوراق المالية في التقارير المالية للبنك تحت فئتين، أوراق مالية متاحة للبيع (AFS) أو محتفظ بها حتى تاريخ الاستحقاق (HTM). يتم حساب القيمة العادلة للأوراق المالية المتاحة للبيع، حيث يتم تحديد القيمة العادلة (MtM) في كل فترة محاسبية ويتم تسجيل الأرباح/الخسائر في القوائم المالية. أما الأوراق المالية المحتفظ بها حتى تاريخ الاستحقاق، فتسجيلها يتم حسب القيمة الدفترية ويتم قياسها حسب تكلفة الإطفاء. عندما بدأت أسعار الفائدة بالارتفاع، لم تنعكس أي تعديلات على القيمة العادلة (MtM)، ولم يتم الشعور بأي خسائر لتلك الأوراق المالية المحفوظة حتى تاريخ الاستحقاق والتي مثلت مايقارب 76% من الأوراق المالية الاستثمارية لبنك SVB حسب تقرير نهاية السنة المالية 2022. إن ماحصل يزيد من أهمية فهم كيفية تسجيل الأوراق المالية وكيفية الاعتراف بالمكاسب والخسائر غير المحققة في القوائم المالية.
فيما يخص المشتقات المالية، فالأرباح والخسائر يجب أن يتم عكسها في قائمة الدخل. لكن، من خلال تطبيق محاسبة التحوط فأنه يمكن حفظ التغيرات في القيمة العالدلة للمشتق في قائمة الدخل الاخر. إن الغرض الرئيسي من محاسبة التحوط هو عكس أنشطة إدارة المخاطر للمنشأة في بياناتها المالية. ومن خلال القيام بذلك، فأنها تقلل بشكل ملحوظ من التذبذبات في قائمة الدخل. على الرغم من أن تطبيق محاسبة التحوط يظل خيار عائد للمنشأة وليس إجباري، إلا أن العديد من الشركات تفضَل تطبيقه من أجل إنشاء مواءمة بين أهدافها الخاصة بإدارة المخاطر والعمليات الخاصة بالمشتقات المالية.
إن تطبيق محاسبة التحوط يجب أن يتم بالامتثال للمعيار المحاسبيIFRS9 . إن المعيار يذكر لنا ثلاثة أنواع لمحاسبة التحوط وهي تحوط القيمة العادلة، صافي التحوط الاستثماري والنوع الأخير والأكثر انتشارًا هو تحوط التدفقات النقدية. وسيكون التركيز في ماتبقى من المقالة على النوع الأخير.
من خلال تطبيق محاسبة التحوط يتم تخصيص المشتق المالي كأداة تحوط تتطابق أحكامه الأساسية مع البند (التعرُض) الذي تم التحوُط منه (كقرض عائم) باستثناء حركة القيمة العادلة حيث يعاكس واحدهم الآخر. أضف إلى ذلك، أي ربح أو خسارة تتبع للمشتق المالي يتم حفظها في قائمة الدخل الآخر ليتم إعادة تدويرها لاحقًا إلى قائمة الدخل بنفس الفترة المحاسبية التي تتأثر بها قائمة الدخل بأي عملية خاصة ببند التحوُط. هذا النوع من التزامن يخلق نوع من التعويض من شأنه التخفيف من التذبذبات على أرباح الشركة.
أين تكون البداية؟
إن اتخاذ قرار تطبيق محاسبة التحوط من عدمه يجب أن يتم أخذه بالاعتبار بشكل مبكِر قبل الدخول بأي مشتق مالي. بمجرد وضع استراتيجية لإدارة المخاطر خاصة بالتحوط وقبل البدء يعملية التفاوض مع الأطراف ذوي العلاقة موفَري منتجات التحوط. يجب التفكير بنوعية المشتق المالي والخصائص المختلفة التي قد يشتمل عليها المنتج.
بدءًا من اختيار نوع المنتج، عادةً ماتكون المنتجات البسيطة (plain-vanilla) متوافقة مع متطلبات محاسبة التحوط، ووضع هذه النقطة في الاعتبار سيجعل قدرة المنشأة على تطبيق محاسبة التحوط أكثر سهولة. من أكثر هذه المنتجات شهرة هي مقايضات أسعار الفائدة (Swaps) والتي تمثل مايقارب 86.5% من إجمالي حجم التداول العالمي اليومي البالغ 5.2 تريليون دولار لأسواق مشتقات أسعار الفائدة غير المدرجة، حسب التقرير الأخير لبنك التسويات الدولية في العام 2022 والذي يغطي فترة ثلاث سنوات. ومن المنتجات الأخرى أيضًا عقود الخيارات ذات الحد الأدنى أو السقف على أسعار الفائدة. وتطبيق محاسبة التحوط ممكن على هذه المنتجات، إلا أنه قد يكون أعقد قليلًا من مقايضات أسعار الفائدة وذلك بسبب الحاجة لحساب القيمة الخاصة بالخيار في العقد ومراعاة وجود علاقة غير خطية في هذه المنتجات . أما فيما يخص إدارة المخاطر الخاصة بأسعار صرف العملات، فالعقود الآجلة وعقود الخيارات أيضًا جميعها تعتبر منتجات صديقة لمحاسبة التحوط وتلبي بشكل فعَال حاجة الشركات للتخفيف من مخاطر التعرض لتقلبات أسعار الصرف.
إن تطبيق محاسبة التحوط يعتبر قرار اختياري عائد للشركة. ولكن، بمجرد أن يتم اتخاذ القرار بتطبيقها، فأنه يجب القيام بذلك وفق المعيار المحاسبي IFRS9.
الامتثال للمعيار
من أجل أن يتم اعتبار العلاقة التحوطية فعَالة حسب المعيارIFRS9، يجب مراعاة بعض العوامل النوعية لتلبية متطلبات المعيار.
- وجود علاقة تحوطية بين المشتق المالي وبند التحوط
يجب أن يكون هناك توقع بأن القيمة العادلة لأداة التحوط والبند المغطى سوف تتحرك في اتجاهين متعاكسين ، مما يؤدي إلى علاقة تسوية تقلل من المخاطر. من أجل أن تتحقق هذه العلاقة، يجب أن تتطابق الأحكام الأساسية كقيمة العقد ومدته والمعدل ذو الصلة (التعرض الذي يتم التحوط منه).
كما نشهد حاليًا نهاية اللايبور تقترب، فإن تحول المؤشر يمثل تهديدًا قد يخل بمثل هذه العلاقة الاقتصادية. الجدير بالذكر، أن مجلس معايير المحاسبة الدولية (IASB) قدم إعفاء للكيانات التي لديها عقود قديمة. حيث يمكن تعديل الشروط الأساسية للمشتق المالي (المعدل المرجعي لايبور) من دون الغاء العلاقة التحوطية.
- مخاطر الائتمان لاتهيمن على تغيرات القيمة
وفقًا للمعيار، يجب حساب مخاطر عدم ايفاء اي من طرفي العقد الخاص بالمشتق بالمالي بالتزاماته من خلال حساب قيمة تعديل تقييم الائتمان الثنائي (BCVA). يتم احتساب تعديل تقييم الائتمان الثنائي (BCVA) فقط على عقود المشتقات غير المدرجة حيث تكون مخاطر الائتمان أكثر حضورًا مقارنة بالمشتقات المتداولة في البورصة.
جدير بالذكر، أن المعيار لم يضع تعريف محدد للمقصود بـ “تهيمن”. ولكن، لا ينبغي أن يعزى التغيير في القيمة العادلة للمشتقات إلى تعديل مخاطر الائتمان. بل يجب أن تكون الحركة في قيمة المشتق المالي مبررة بعوامل السوق، كأسعار الفائدة أو معدلات الصرف. إن قيمة تعديل مخاطر الائتمان قد تكون ذات أثر “مهيمن” على تغيرات القيمة في أوقات الأزمات كالأزمة المالية العالمية في العام 2007-08 أو أيضًا خلال العام 2020 عند بدء انتشار وباء الكوفيد.
- نسبة التحوط المخصصة تتماشى مع استراتيجية إدارة المخاطر
نظرًا لأن الانعكاس الدقيق لأنشطة إدارة المخاطر على البيانات المالية هو الغرض الرئيسي لمحاسبة التحوط، فإن المعيار المحاسبي يفرض وجود نسبة تحوط متوافقة مع سياسة إدارة المخاطر الخاصة بالشركة.
الرحلة عبر محاسبة التحوط
لنفترض الآن أن شركةً قامت بالدخول في عقد مشتق مالي للتحوط من تعرضٍ ما، واختارت أيضًا منتجًا صديق لمحاسبة التحوط مستوفيةً متطلبات المعيار IFRS9 المذكورة أعلاه. يأتي الآن الوقت لبدء إنتاج مخرجات محاسبة التحوط، والتي تتكون من مرحلة الإعداد الأولي التي تأتي في أول فترة محاسبية من بدء تطبيق محاسبة التحوط، متبوعة بمخرجات بشكل دوري للفترات المحاسبية التي تليها.
يمثل اختبار عدم الفعالية جزء أساسي من التقرير النهائي لمخرجات محاسبة التحوط، والذي يتم من خلال نهج يعرف بالمشتق الافتراضي. بما أن بند التحوط (كالقرض العائم) يقاس بتكلفة الاستهلاك في حين أن المشتق المالي يتم قياسه وفق القيمة العادلة خلال الفترة المحاسبية، فإنه من من غير الممكن إجراء مقارنة متطابقة لأغراض محاسبة التحوط لإجراء اختبار عدم الفعالية. لهذا السبب أتى ممارسو المحاسبة بنهج المشتق الافتراضي، والتي تعتبر ممارسة شائعة في السوق على الرغم من عدم ذكرها في مؤلفات المحاسبة. وتكون البداية ببساطة من خلال إنشاء أداة تحوط (افتراضية) تقوم بشكل مثالي بالتحوط من المخاطر الأساسية. بعد ذلك، يتم احتساب حركة القيمة العادلة للمشتق الافتراضي والفعلي. وأي تغير في المشتق الفعلي أعلى من الافتراضي يمثل عدم فعالية يتم احتسابها في قائمة الدخل.
في النهاية، قد يتساءل أحدهم، لماذا قد تتكبد الشركة عناء تحقيق هذه المتطلبات لتمتثل لمعيار تطبيقه “اختياري” في الأساس؟ كما ذكرت سابقًا، تمكّن محاسبة التحوط المنشأة من تمثيل أنشطتها في إدارة المخاطر في بياناتها المالية. أيضًا تطبيقها يساعد على إزالة العوامل الخارجية (كمخاطر السوق) التي قد تؤثر على الأرباح وتساعد بشكل أفضل على فهم أداء الشركة، ولمثل هذه الأسباب نطبق المعايير المحاسبية للتحوط.