اقتسام المخاطر: إدارة أسعار الفائدة في عمليات تمويل المشاريع

اقتسام المخاطر: إدارة أسعار الفائدة في عمليات تمويل المشاريع

تشهد المملكة العربية السعودية طفرة في النمو الاقتصادي، والمتتبع لنمو السوق الائتماني يدرك هذا الأمر مباشرةً. حسب النشرة الإحصائية الشهرية للبنك المركزي السعودي، قدمت البنوك في المملكة أكثر من 2.2 تريليون ريال سعودي من التسهيلات الائتمانية للقطاع الخاص حتى ديسمبر 2022م. نصف التسهيلات البنكية تقريبًا عبارة عن تسهيلات طويلة الأجل لأكثر من ثلاث سنوات. هذه بلا شك أرقام قياسية؛ مما يكشف عن الزخم القوي لقصة النمو الاقتصادي الاستثنائي للمملكة.

جوهر هذه القصة هي عمليات تمويل المشاريع، وكذلك نمو أعمال الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP). كلاهما يتسارع بثبات، مدعومًا من الحكومة التي تولي الاهتمام لمشاريع البنية التحتية، جنبًا إلى جنب مع المشاريع العملاقة في جميع أنحاء المملكة.

ومع ذلك، فإن هذا التوسع الملحوظ يأتي مع مخاطر؛ من بينها: حركة أسعار الفائدة التي ارتفعت مؤخرًا، وتزايدت تقلباتها بشكل كبير؛ فما عليك سوى إلقاء نظرة على تحركات أسعار الفائدة بين البنوك بالريال السعودي (السايبور) خلال العقد الماضي. فلو أخذنا السايبور المربوط بأجل ثلاثة أشهر ونقارن تذبذباته خلال الخمس سنوات الأولى من العقد الماضي مقارنةً بحركته خلال النصف الثاني؛ لوجدنا أن الانحراف المعياري (Standard deviation) اليومي ارتفع من 0.52% خلال النصف الأول لأكثر من الضعف عند قيمة 1.21% بالنصف الثاني.

هذا التقلب الطارئ على أسعار الفائدة يثير الأسئلة حول كيفية التعامل مع توزيع المخاطر بين اثنين من أصحاب المصلحة الأساسيين في تمويل المشاريع الكبيرة؛ أولاً شركة المشروع، والتي عادةً ما تكون كيانًا ذا غرض خاص تم إنشاؤه لتسليم المشروع، والذي يعتبر الأصل الوحيد لها. ثانيًا: الجهة المستفيدة من المشروع والتي طرحته ابتداءً، وتدفع لشركة المشروع لتسليمها ما تم الاتفاق عليه (سنسميها بالمشتري – الذي عادة ما يكون كليًّا أو جزئيًّا من القطاع العام).

بالنظر إلى الارتفاع والتقلب الأخير في أسعار الفائدة، ما هي الاعتبارات الأساسية التي تتعلق باقتسام المخاطر بين هاتين الجهتين الأساسيتين؟

الممارسة المحلية

تختلف منهجيات اقتسام مخاطر أسعار الفائدة لكل مشروع. ومع ذلك، فإن النهج المعتاد في السوق المحلية يضع العبء على عاتق المشتري حتى تتم عملية الإغلاق المالي (Financial Close). فالمشتري في هذه الحالة يتحمل مخاطر حركة سعر الفائدة والفرق حسب ما هو مدون في النموذج المالي لشركة المشروع مقدمة العطاء الفائز، وحتى تاريخ تنفيذ عملية التحوط. في هذه الحالة، تظل ربحية شركة المشروع محمية من أيّ تأثير لسعر الفائدة حتى تنفيذ عملية التحوط من أسعار الفائدة.

على سبيل المثال، إذا ارتفع سعر الفائدة عن السعر المُفترض والمُدوّن بالنموذج المالي مقارنة بما عليه الحال في تاريخ تنفيذ عملية التحوط، فسيتم تعديل النموذج المالي للحفاظ على مقاييس الربحية كما كانت، وسيدفع المشتري الفرق المتحصل من تغير سعر الفائدة. وعلى العكس، إذا انخفضت أسعار الفائدة، فإن المشتري يستفيد عبر تعديل النموذج المالي لشركة المشروع حتى تبقى ربحيتها كما كانت.

تتطلب إدارة هذه المخاطر استراتيجية تحوط مثالية، وفهمًا بين أصحاب المصلحة عن ماهية توزيع واقتسام المخاطر منذ البداية. لذلك، دعونا نتفحص هذه العملية حسب ترتيب زمني واضح.

قبل تقديم العطاء

يجب على شركة المشروع صياغة استراتيجية تحوُّط بيّنة، وتحديد الركائز الأساسية؛ مثل: مدة التحوط، وحجمه الأمثل، والأداة المالية. من الضروري لضمان سلاسة عملية الإغلاق المالية أن يكون هناك توافقٌ على هذه الركائز بين المقرضين الذين يقدمون هذه المنتجات وشركة المشروع، والمشتري كذلك.

هدف شركة المشروع هو الوصول بنجاح إلى مرحلة الإغلاق المالي. لذلك يجب عليها التركيز على تأمين وإنهاء متطلبات ومستندات التمويل والوفاء بالوثائق ذات الصلة في أقرب وقت ممكن. ومع ذلك، فإن جوانب التحوط التي لا يُخطط لها بشكل سليم واستباقي سيربك سير المشروع وعملية الإغلاق المالي، وقد يجبر شركة المشروع على اتخاذ قرارات متسرعة غير مثالية.

جوانب التحوط التي لا يُخطط لها بشكل سليم واستباقي سيربك سير المشروع وعملية الإغلاق المالي، وقد يجبر شركة المشروع على اتخاذ قرارات متسرعة غير مثالية.

يساعد فهم آلية اقتسام مخاطر أسعار الفائدة بمرحلة ما قبل تقديم العطاء شركة المشروع على إنشاء النموذج المالي والتنبؤ به بشكل حصيف. على سبيل المثال، إذا كان التمويل المخطط له طويل الأجل، وعملة التمويل تفتقر السيولة بما يكفي لفترة التحوط بأكملها؛ فمن الضروري تحديد التأثير المحتمل وإدراجه في اقتصاديات وفرضيات المشروع. يجب أن يكون واضحًا منذ البداية ما إذا كان المشتري سيواصل تعويض شركة المشروع عن مخاطر سعر الفائدة بعد تنفيذ التحوط (الجزء غير المحمي). إذا شارك المشتري في أيّ وفورات متحققة بأسعار الفائدة بعد تنفيذ عملية التحوط دون الخسائر فإنه يجب لزامًا على شركة المشروع تقييم هذه الحالة، ومناقشتها بشكل عادل وشفاف.

عادةً ما تتحمل شركة المشروع ربحية البنك جراء التعامل بمنتجات التحوط، ولا يتم إدراجها ضمن اتفاقية اقتسام المخاطر. لهذا السبب، يُعد التخطيط المسبق ومناقشة هامش الربحية مع البنوك أمرًا بالغ الأهمية.

بعد الفوز بالعطاء وقبل عملية الإغلاق المالي

هذه المرحلة هي العمود الفقري للعملية برمتها، ويعتمد نجاحها على مدى جودة فهم شركة المشروع للاتفاقية في الخطوة السابقة. قد تفضل شركة المشروع أن يكون هناك تَوافق مِن قِبَل جميع الأطراف ذات الصلة على هامش الربحية لعملية التحوط. يلجأ البعض إلى أن يكون هذا الهامش موحدًا بين مقدمي منتج التحوط. ولكن من المقبول أيضًا، بل من المستحسن أحيانًا، أن يكون هناك هوامش مختلفة لنفس المشروع مع كل جهة مقرضة، وفقًا للمخاطر التي يتحملونها.

لقد شهدنا كذلك نهجًا مختلفًا تمامًا؛ حيث تؤسس شركة المشروع منافسة بين المقرضين على هامش ربحية عملية التحوط، والتي ستربحها الجهة الأكثر تنافسية. في هذه الحالة، لكل مُقرض الحق في معادلة السعر الأفضل، ولكن فقط وفقًا لحجم الدَّيْن المقدَّم، وعلى أساس نسبي. الجانب السلبي لهذا النهج هو أن المقرض قد يفقد فرصة الربحية المتحصلة من عملية التحوط بالإجمال، مما يؤثر على الربحية المفترضة للإقراض ككل.

إذا كان هناك حد أدنى من متطلبات التحوط الإلزامية للتمويل طويل الأجل، فيمكن لشركة المشروع الاتفاق على هامش ربحية أقل لشرائح التحوط اللاحقة. هذا الهامش سيعتبر أفضل من الشريحة الأولى بسبب انخفاض المخاطر خلال فترات اكتمال المشروع أو التشغيل. الفشل في فتح حوار في بادئ الأمر حول هامش الربحية اللاحق يعني أن شركة المشروع تقبل – بشكل افتراضي – أن يتم تطبيق هامش الربح الأولي على بقية الشرائح والتحوطات التالية.

أشدد هنا على أهمية صياغة بروتوكول التحوط في وقت مبكر. يجب أن يتماشى هذا البروتوكول تمامًا مع استراتيجية التحوط المتفق عليها والمدعومة بالتوافق من جميع أصحاب المصلحة

أشدد هنا على أهمية صياغة بروتوكول التحوط في وقت مبكر. يجب أن يتماشى هذا البروتوكول تمامًا مع استراتيجية التحوط المتفق عليها والمدعومة بالتوافق من جميع أصحاب المصلحة. عادةً ما يتمتع الطرف الذي يتكبّد جُلّ مخاطر أسعار الفائدة بمزيد من المرونة لتصميم البروتوكول لضمان العدالة والشفافية عند تغطية مخاطر أسعار الفائدة.

إجراء عملية تجريبية (غير حقيقية) للتحوط طريقة ممتازة لاختبار موثوقية البروتوكول لعملية التحوط كاملةً. ومع ذلك، يجب أن توجد جهة مستقلة تقيس وتراجع الأسعار المقدمة؛ لأنه ببساطة، السعر الأدنى ليس دائمًا هو الأفضل.

نظرًا لتعقيد النمذجة المالية التي تنطوي عليها معاملات تمويل المشروع، يتغير جدول القرض والتدفق النقدي المتوقع وفقًا لمعدل التحوط ومنحنى سعر الفائدة. لذلك، يعد تحديث النموذج المالي، وفقًا لهذا التغيير، بسرعة عالية أمرًا بالغ الأهمية. يجب أن يدير المستشار المالي أو مستشار التحوط العملية وفقًا لتعريف بروتوكول التحوط لها. تميل بعض شركات المشاريع والمشترين إلى وضع حد مقبول للانحراف بين منحنى سعر الفائدة المفترض وأسعار السوق الفعلية. هذا يزيد من ضرورة الفهم العميق لهذا التأثير ووضع حدود مقبولة له.

تحدد اتفاقية ISDA (الرابطة الدولية للمقايضات والمشتقات) وملحقها شروط معاملات المشتقات. يتم تخصيص الملحق لغرض التفاوض حول الجوانب الدقيقة، تجاريًّا وقانونيًّا. يتمثل دور مستشار التحوط في تغطية الجوانب التجارية، والتأكد من أنها معقولة، وتفي بالغرض للعميل. يصبح هذا أكثر أهمية بالنسبة لعمليات التحوط طويلة الأجل؛ حيث قد تخضع أسعار الفائدة للاستبدال بمعدلات عائمة بديلة في المستقبل. يجب على شركة المشروع التعامل مع هذه العملية بحذر، والتفاوض بشأن أي بند لفهم الآثار المترتبة عليه بالكامل. مرة أخرى، يجب أن يكون هذا المستند من بين أُولى الوثائق التي يتم الانتهاء منها والاتفاق عليها خلال هذه المرحلة.

أثناء تنفيذ عملية التحوط

بعد عدة عمليات تجريبية ومُرضِية لعملية التحوط، وإكمال جميع الوثائق المطلوبة من قبل البنوك والأطراف ذات العلاقة، يحين موعد اليوم المهم: تنفيذ عملية التحوط. في هذه المرحلة، تمتلك الآن شركة المشروع رؤية واضحة لاستراتيجية التحوط وطريقة التنفيذ.

لتجنب مفاجآت اللحظة الأخيرة، يجب القيام بإجراءات نهائية للتأكد من سلامة شروط التحوط مِن قِبَل البنوك والحصول على نسخة استرشادية. سيكشف ذلك عن أيّ إشكال محتمل بالفهم قبل تنفيذ عملية التحوط. بنفس القدر من الأهمية ينبغي مناقشة أصحاب المصلحة حول منهجية التنفيذ المثلى التي تفرضها طبيعة التحوط المنشودة، حسب حجم التحوط، والعملة، والمدة، وما إلى ذلك.

نظرًا لحساسية تأثر أسعار التحوط بمعطيات السوق وقواه، يجب أن يضمن مستشار التحوط التوافق التام بين جميع أصحاب المصلحة لتجنب التكاليف المفرطة لإغلاق عملية التحوط. عادةً يتم إحضار جميع موفري التحوط أو البنوك في مكالمة واحدة للتسعير؛ حيث يقدم كل طرف أفضل سعر لديه. إذا كان المشتري هو مَن يتحمل مخاطر سعر الفائدة، كما ذكرنا سابقًا، وارتفعت الأسعار مقارنةً بالنموذج المالي الأولي، فمن مصلحته التحقق من عدالة ومعقولية أفضل سعر على عجل. نستذكر هنا أن أقل سعر معروض ليس هو الأفضل دائمًا.

بعد تنفيذ عملية التحوط

إذا تبقى جزء غير محمي من الديون طويلة الأجل بعد تنفيذ التحوط؛ فيجب على شركة المشروع إدارة خطة واستراتيجية التحوط في المستقبل بعناية، مع مراعاة آلية اقتسام مخاطر أسعار الفائدة. لقد شهدنا بعض استراتيجيات التحوط التي لا تسمح بإجراء تحوطات إضافية إلا خلال إطار زمني ضيق قبل انتهاء صلاحية التحوط الأولي. قد يضر هذا بشركة المشروع وبشدَّة إذا كانت تأخذ على عاتقها مخاطر أسعار بعد عملية الإغلاق المالي والتحوط الأولي (وهذا الشائع)، لذلك نعتقد أنه يجب أن يكون لشركة المشروع مطلق التقدير والحرية بشأن إجراء التحوطات اللاحقة متى ما ناسبها ذلك، وتضمين ذلك باستراتيجية التحوط حسب استعدادها لتحمُّل المخاطر والقيود المالية المفروضة على الشركة.

بعض شركات المشاريع تأخذ بعين الاعتبار التأثير المحاسبي والتداعيات ذات العلاقة جراء استعمال أدوات المشتقات المالية. لذلك، رأينا أنه أصبح من الشائع بشكل متزايد تطبيق المعيار المحاسبي الدولي للأدوات المالية (IFRS9) الطوعي لحماية قائمة الدخل من التقلبات جراء التغيير بالقيمة العادلة للمشتقات المالية مع حركة السوق.

خاتمة

يعد التخطيط لاستراتيجية التحوط المثلى لشركة المشروع عملية دقيقة ومهمة. مفتاح النجاح هو ضمان التفاهم المتبادل في وقت مبكر. يمكن أن يتم استخدام قائمة تساعد في تدوين جميع المهام جيدًا أثناء التخطيط، مما يدفع إلى النظر في كل عامل مرتبط بالتحوط.

بالطبع فإن لكل مشروع صفاته الخاصة والفريدة، فيجب تجنُّب التطبيق الأعمى لاستراتيجيات التحوط السابقة على المشاريع الحالية، وتذكر دائمًا أن الاختلافات الطفيفة بين المشاريع يمكن أن تسبب اختلافات كبيرة في استراتيجية التحوط والبروتوكول الملحق به. أخيرًا، يؤدي تحديد التوقعات والمسؤوليات لأصحاب المصلحة في بداية كل مشروع إلى تجنب تداخل المهام، وتعزيز عنصر المحاسبة لضمان عملية تحوط سلسة وشفافة.

نهاية اللايبور تقترب
دروس إدارة المخاطر المستفادة من عام 2022
القائمة